الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويحتمل أن يكون الضمير في: {يلقون} للأفاكين والسمع الأذن أو المسموع أي يلقونه السمع إلى لاشياطين فيتلقون وحيهم، أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس. وإنما لم يقل وكلهم كاذبون لأن الكذوب قد يصدق فيصدق عليه انه صادق في الجملة لأن هذه عبارة الفصحاء لا يحكمون حكمًا كليًا ما لم تدع إليه ضرورة. والحاصل أنهم كانوا يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلم على حال الكهنة فقيل لهم: إن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلا الصدق، فكيف يكون كاهنًا؟ ثم بين ما يعرف منه أن النبي ليس بشاعر كما أنه ليس بكاهن فقال: {والشعراء يتبعهم الغاوون} قيل: أي الشياطين. والأظهر أنهم الذين يروون أشعارهم وكان شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأمية بن ابي الصلت يهجون النبي صلى الله عليه وسلم ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أهاجيهم فنزلت. ثم بين غوايتهم بقوله: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول يمدحون إنسانًا معينًا تارة ويذمونه أخرى غالين في كلا الطرفين مستعملين التخيل في كل ما يرومونه. وذكر من قبائح خصالهم {أنهم يقولون} عند الطلب والدعاوي {مالا يفعلون} ولعمري إنها خصلة شنعاء تدل على الدناءة واللؤم.
وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله: فقال: وجب عليك الحد: قال: قد درأ الله عني الحد يا أمير المؤمنين وتلا الآية. ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم الذكر والفكر فيما لا بأس به من المواعظ والنصائح، ومدح الحق وذويه، ويكون هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم مثل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل» وكان يقول لحسان: هاجهم وروح القدس معك. والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي. فإن كان المعنى صحيحًا مطابقًا للحق والصدق فلا بأس بإِدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمًا» وإن كان المعنى فاسدًا والغرض غير صحيح فهو الذي توجه الذم إليه. وللانتصار حد معلوم وهو أن لا يزيد على الجواب لقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] وقال صلى الله عليه وسلم: «المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم» ثم ختم السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال: {وسيعلم الذين ظلموا} خصصه بعضهم بالشعراء إذا خرجوا عن حد الإنصاف، ومالوا إلى الجور والاعتساف، ولعله عام يتناول لكل من ظلم نفسه بالإعراض عن تدبر ما في السورة بل القرآن كله. وقوله: {أيّ منقلب} صفة لمصدر محذوف والعامل {ينقلبون} أي ينقلبون في الدركات السفلى انقلابًا أيّ منقلب ولا يعمل فيه {يعلم} لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وعن ابن عباس أنه قرأه بالفاء والتاء والمراد سيعلمون أنه ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة. اهـ.
قال ابن عطية: جمع أعجم، يقال الأعجمون جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان غربيّ النسب يقال له أعجم وذلك يقال للحيوانات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار» وأسند الطبريّ عن عبد الله بن مطيع أنه كان واقفًا بعرفة وتحته جمل فقال جملي هذا أعجم ولو أنه أنزل عليهم ما كانوا يؤمنون، ولما كان ذلك محل تعجب وكأنه ربما ظنّ له أنّ الأمر على خلاف حقيقته قرّر مضمونه وحققه بقوله تعالى: {كذلك} أي: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجم {سلكناه} قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أدخلنا الشرك والتكذيب {في قلوب المجرمين} أي: كفار مكة بقراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنّ الكل بقضاء الله تعالى وقدره، وقيل: الضمير في سلكناه عائد إلى القرآن، قال ابن عادل: وهو الظاهر أي: سلكناه في قلوب المجرمين كما سلكناه في قلوب المؤمنين ومع ذلك لم ينجع فيهم، وفي جملة.{لا يؤمنون به} وجهان: أحدهما: الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله، والثاني: أنها حال من الضمير في سلكناه أي: سلكناه غير مؤمن به أي: من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام وجعل على قلوبهم من الطبع والختام {حتى يروا العذاب الأليم} أي: الملجئ للإيمان فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان، ولما كان إتيان الشرّ فجأة أشدّ، قال تعالى: {فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون} بإتيانه.{فيقولوا} أي: تأسفًا واستسلامًا وتلهفًا في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه {هل نحن منظرون} أي: مفسوح لنا في آجالنا فنسمع ونطيع.فإن قيل: ما معنى التعقيب في فيأتيهم بغتة فيقولوا؟أجيب: بأنه ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى يكون رؤيتهم للعذاب عما هو أشدّ منها وهو لحوقه بهم مفاجأة عما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة، مثال ذلك: أن تقول لمن تعظه: إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنه لا يقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقب مقت الصالحين وإنما قصدك إلى ترتيب شدّة الأمر على المسيء، فإنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين عما هو أشدّ من مقتهم وهو مقت الله، ونرى ثم تقع في هذا الأسلوب فيجمل موقعها، ولما أوعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب قال الله تعالى: {أفبعذابنا} أي: وقد تبين لهم كيف أخذه للأمم الماضية والقرون الخالية والأقوام العاتية {يستعجلون} أي: بقولهم: أمطر علينا حجارة أسقط علينا كسفًا من السماء ونحو ذلك.{أفرأيت} أي: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم فأخبرني {إن متعناهم} أي: في الدنيا برغد العيش وصافي الحياة {سنين}.{ثم جاءهم} أي بعد تلك السنين المتطاولة والدهور المتواصلة {ما كانوا يوعدون} من العذاب.{ما} أي: أيّ شيء {أغنى عنهم} أي: فيما أخذهم من العذاب {ما كانوا يمتعون} برفع العذاب أو تخفيفه، أي: لم يغن عنهم طول التمتع شيئًا ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط، وعن ميمون بن مهران: أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له عظني فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال له ميمون لقد وعظت فأبلغت.
|